كيف تستمتع بالصلاة؟ … حقوق الصلاة الأساسية حسب سورة النساء
7 فبراير، 2023
443
حثنا الله تعالى على الاستمتاع الحقيقي بالصلاة؛ لأنها تمنع حالة السكر العقلي المدمر، وتحمي من الوقوع في خطيئة منع الحقوق الإنسانية، وذلك بتعظيم الصلاة وأماكنها، فالصلاة المعظمة من أقوى أسس بث الحياة الإنسانية (النساء:43)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]
للتمكن من الاستمتاع بالصلاة ذكر الله حقوقها الأساسية هنا، وهي:
الحق السابع: تعظيم الصلاة بإيجاد بديل عن الطهارة الأساسية عند تعسرها أو تعذرها، وذلك بالتيمم عند عدم الـماء إذا كانت هناك أعذار، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى ذكره: ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ﴾ (النساء:43).
فالتيمم معناه القصد، فقوله: ﴿ فَتَيَمَّمُوا ﴾ «تفعَّلوا» من قول القائل:«تيممت كذا» إذا قصدته وتعمدته، «فأنا أتيمّمه»، وقد يقال منه:«يَمَّمه فلان فهو يُيممه»، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
تَيَـمَّـمْتُ قَيْـسًا وَكَـمْ دُونَهُ
مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شَزَنْ
ثُمَّ صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي العَمَلِ المَخْصُوصِ، وَهُوَ ضَرْبُ اليَدَيْنِ بالصعيد الطيب، وَمَسْحُ الوَجْهِ وَاليَدَيْنِ بِهِمَا بقصد الطهارة الشرعية، وجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الحقيقة اللغوية والشرعية، فَقَالَ:
تَيَمَّمْتُكُمْ لَمَّا فَقَدْتُ أُولِي النُّهَى
وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ بِـالتُّرْبِ
فمن تعظيم الصلاة تطلب الصعيد الطيب في التيمم، ولا يكفي أي صعيد.
والصَّعِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الصَّاعِدِ على وجه الأرض، فاختلفت عبارات أهل العلم في تحديده، فقَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّعِيدُ وَجْهُ الأَرْضِ، تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وقيل: التي ليس فيها شجر ولا نبات، وقيل: بل هو الأرض المستوية، وقيل: وجه الأرض، وقيل: بل هو وجه الأرض ذاتِ التراب والغُبَار، وذهب مالك إلى أنه كُلُّ مَا صَعِدَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ التُّرَابُ، وَالرَّمْلُ، وَالشَّجَرُ، وَالحَجَرُ، وَالنَّبَاتُ، «وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالصَّعِيدِ لِيَصْرِفَ المُسْلِمِينَ عَنْ هَوَسِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا التُّرَابَ أَوِ الرَّمْلَ مِمَّا تَحْتَ وَجْهِ الأَرْضِ غُلُوًّا فِي تَحْقِيقِ طَهَارَتِهِ» كما يقول الطاهر بن عاشور، وَقِيلَ: مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ فَيُخْتَصُّ التُّرَابُ وَالرَّمْلُ وَالزَّرْنِيخُ، وَالنَّوْرَةُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: هُوَ التُّرَابُ فَقَطْ، فهو الأرض الملساء التي لا نَبات فيها ولا غِرَاس، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِمَا، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] أَيْ: تُرَابًا أَمْلَسَ طَيِّبًا، وَبِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ المَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ المَاءَ»، وَفِي لَفْظٍ: «وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ المَاءَ»، فخصص الصعيد بِالتُّرَابِ فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ لَذَكَرَهُ مَعَهُ، ومثل ذلك أَنَّ هذه الآية هاهنا مُطْلَقَةٌ، وَلَكِنَّهَا فِي سُورَةِ المَائِدَةِ مُقَيَّدَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وَكَلِمَةُ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي الصَّخْرِ الَّذِي لَا تُرَابَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الغَايَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الكَشَّافِ»: لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنَ العَرَبِ مِنْ قَوْلِ القَائِلِ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ مِنَ الدُّهْنِ وَمِنَ المَاءِ وَمِنَ التُّرَابِ: إِلَّا مَعْنَى التَّبْعِيضِ، ثُمَّ قَالَ: وَالإِذْعَانُ لِلْحَقِّ أَحَقُّ مِنَ المِرَاءِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الوَاحِدِيُّ رحمه الله، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الآيَةِ كَوْنَ الصَّعِيدِ طَيِّبًا، وَالأَرْضُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي تُنْبِتُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] فَوَجَبَ فِي الَّتِي لَا تُنْبِتُ أَنْ لَا تَكُونَ طَيِّبَةً، فَكَانَ قَوْلُهُ: ﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ أَمْرًا بِالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ فَقَطْ، وَظَاهِرُ الأَمْرِ للوجوب.
والظاهر عندي إعمال الآيتين، فالصعيد يكون بالتراب حال توفره، وهذا إعمال للتقييد في سورة المائدة، وبغيره حال عدم الأول، وهذا إعمال للإطلاق في سورة النساء، وحمل المطلق على المقيد ليس متفقًا عليه دائمًا، بل ربما كان إعمال كلٍّ من الجهتين حسب المناسب لهما أولى.
وأما قوله: ﴿ طَيِّبًا ﴾ فإنه يعني به: طاهرًا من الأقذار والنجاسات.
وقد بين الله كيفية التيمم فقال: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ (النساء: 43).
وهنا تتساءل: عن سر إدخال الباء في قوله: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ﴾ فلم يقل: فامسحوا وجوهكم.. فتعال لنلمح مجموعة من المعاني التي تثيرها هذه الباء:
فيظهر من هذه الباء أن التراب لا يمكن إيصاله لجميع العضو وإن اجتهد الإنسان في ذلك، فأدخل الباء قاصرًا للفعل في قوله: ﴿ بِوُجُوهِكُمْ ﴾ أي أوقعوا المسح بها سواء عم التراب منبت الشعر أم لا، وبذا تكون الباء للتبعيض على قول من يثبت التبعيض ضمن معاني الباء كابن مالك، وذلك حتى لا يتمرغ الإنسان في التراب تمرغًا كما فعل عمار، فروى شَقِيق بن سلمة قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللهِ وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ المَاءَ شَهْرًا، أَمَا كَانَ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي؟ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي سُورَةِ المَائِدَةِ ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذَا لأَوْشَكُوا إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ المَاءُ أَنْ يَتَيَمَّمُوا الصَّعِيدَ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ المَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا» فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَفَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ؟ [1].
كما يمكنك أن تجد في الباء معنى تأكيد المسح، فكأن ما مستته من الأرض أداة للمسح مِثْلَ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ- يَرْثِي النُّعْمَانَ بْنَ المُنْذِرِ-:
لَكَ الخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الأَرْضُ وَاحِدًا
وَأَصْبَحَ جَدُّ النَّاسِ يَضلَعَ عَاثِرَا
أَرَادَ إِنْ وَارَتْكَ الأَرْضُ مُوَارَاةَ الدَّفْنِ. وَالمَعْنَى: فَامْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ،
فيضرب المتيمم -كما يقول الطبري- بيديه على وجه الأرض الطاهر، أو ما قام مقامه، ثم يمسَح بما علق من الغُبار وجهه؛ فإن كان الذي علق به من الغُبار كثيرًا فنفخ عن يديه أو نفضه، فهو جائز، وإن لم يعلَق بيديه من الغبار شيء وقد ضرب بيديه أو إحداهما الصعيد، ثم مسح بهما أو بها وجهه، أجزأه ذلك، فقد تيمّم عمّارٌ فضرب بيديه إلى التراب ضربةً واحدة، ثم مسح بيديه واحدة على الأخرى، ثم مسح وجهه، ثم ضرب بيديه أخرى، فجعل يلوي يَدَه على الأخرى، ولم يمسح الذراع [2].
واختلف أهل العلم في مدلول ﴿ وَأَيْدِيكُمْ ﴾ هل المقصود بها كامل اليد أي إلى العضد، أم إلى المرافق كما ظهر تقييدها في الوضوء، أم إلى الكوع، فقد قال مكحول: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع، ويتأوّل مكحول القرآن في ذلك: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، وقوله في التيمم: ﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ﴾، ولم يستثن فيه كما استثنى في الوضوء {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] قال مكحول: قال الله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فإنما تقطع يد السارق من مَفصِل الكوع [3]، ورجح الطبري أن الحدّ الذي لا يجزئ المتيمم أن يقصِّر عنه في مسحه بالتراب من يديه: الكفان إلى الزّندين، لإجماع الجميع على أن التقصير عن ذلك غير جائز، ثم هو فيما جاوز ذلك مخيّر، إن شاء بلغ بمسحه المرفقين، وإن شاء الآباط، والعلة التي من أجلها جعلناه مخيرًا فيما جاوز الكفين: أن الله لم يحدَّ في مسح ذلك بالتراب في التيمم حدًّا لا يجوز التقصير عنه [4].
أ.د/ عبد السلام المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (1 / 96).
[2] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 410).
[3] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 411).
[4] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 419).