انتقل عن الدنيا الفانية؛ دار الاختبار والابتلاء، إلى دار الصدق والبقاء، إلى جوار ربه أرحم الرحماء، علَّامة اليمن، مجدد مدرسة الاجتهاد الشوكاني الإمام القاضي محمد بن إسماعيل العمراني.. اللهم ارفع درجته في عليين، واخلفه في عقبه في المهديين، واغفر لنا وله أجمعين:
رحل العلم والتأصيل والتعليل والتدليل، ومات التحقيق والتدقيق: حوت سيرته الدرر والجواهر، وازدانت بذكره المآثر، وارتفعت بذكر اسمه المفاخر، وسالت بالثناء عليه المحابر، فانظر لصنعاء المزدانة بجنازة حافلة سدت الطرقات في يوم حزين يخاطبها تلميذه المثيل، فيقول:
صنعاءُ ما لَكِ!!
هذا الصبح مختلفٌ
ماذا أصابكِ؟!
من كربٍ وأحزانِ
أرى بعينيك آحلامًا ممزقةً
وبين جنبيك خطب هز أركاني
أين الجمالُ
الذي عوّدتِ قافيتي
وصوتُ همسك
يحيي نبض شرياني
أين الضياء
وأنوار النبوة في محراب قلبكِ
يا فردوسي الثاني
رحل تاج العلماء، وقضى غير مغير ولا مبدل ريحانة الفقهاء، ومضى إلى ربه راضيًا مرضيًا تاج الورعين الأتقياء.. نحسبه كذلك والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدًا:
أحنُّ إلى تلك السجايا وإن نأتْ … حنينَ أخي ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
وأُهدي إليها من سلامي مُشاكلاً… نسيم الصبا جاءت برَيَّا القَرَنْفُلِ
من هذا الجبل الشامخ الذي أطل على العالم من الركن اليماني؟
ولد شيخنا يوم الاثنين عام 1340 هـ، تصور هذا النور الإسلامي الذي أشرق على اليمن، فقلع أوتاد التعصب، ونسف جبال الجهل والعبث بالإسلام وأهله؛ قبل أن تكر راجعة.. هل تعلم أن الشيخ العمراني كانت له اليد الطولى في ذلك.
إنه شيخنا ولا فخر: أمة في رجل يذكرك بقول ابن مسعود رضي الله عنه إذ يتذكر معاذ بن جبل، فيقول: «إِنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ»، قَالَ: ثُمَّ أَعَادُوا عَلَيْهِ فَأَعَادَ، ثُمَّ قَالَ: ” أَتَدْرُونَ مَا الْأُمَّةُ؟ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَشْيَةَ، وَالْقَانِتُ: الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ”.
وحدثنا أنه كان وهو فتى يتنقل بين مساجد صنعاء القديمة، ينشر نور العلم الصحيح مقابل “مُقالعة المتعصبين-باللهجة اليمنية”، وكان يكتب على كتبه:
من كان يؤمن بالله خالقه ** فلا يسب أبا بكر ولا عمرا
في عام 1991 م بعد أن وصلت صنعاء بسنة أشرق علي نور شيخنا -أكرمه الله في عليين- في جامع الزبيري، وبدأت دراستي عليه في نزهة النظر شرح نخبة الفكر، ثم تتابعت الدروس الجواهر تترى بين يديه:
وكانت عادته – رفع الله مقامه في عليين- أن يقرأ ويُعَلِّق ونحن نتابع ونسمع: فأقرأنا (الدرر البهية) وشرحها (الدراري المضية)، وكلتاهما لمن أسفرت عنه العلوم في مشرق الأرض ومغربها القاضي محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني (ت 1250هـ)
ثم مضى في إقرائنا (نيل الأوطار) الكتاب الجامع الفريد الذي شرح فيه الشوكاني كتاب (منتقى الأخبار) للإمام أبي البركات ابن تيمية الجد، وهو من أوسع كتب أحاديث الأحكام.
ولا أنسى أن أذكر أن الشيخ لم يكتف بالدراري المضية حتى قرأ علينا (الروضة شرح الدرر البهية) لأبي الطيب محمد صديق بن حسن بن لطف الله القِنَّوجِي البخاري الحسيني أمير مملكة بهوبال (ت1307ه)، وتعجب من ذلك؛ لأن صديق حسن خان كأنما نقل شرحه من الدرر البهية، لكن شيخنا -رفع الله مقامه- كان يأبى إلا أن يسطر آيات الوفاء لمن احتفى بالتراث اليمني، ويعلمنا الاعتدال في الكلام عند النقل عن الأئمة الأعلام.
ومضت المجالس المنيفة، فإذا بشيخنا تمتد أنواره، ليحمسنا لقراءة نوادر الكتب، فشرع في كتاب (فتح الغفار الجامع لأحكام سنة نبينا المختار) للإمام الحسن بن أحمد بن يوسف بن محمد بن أحمد الرُّباعي الصنعاني (ت 1276هـ)، وهذا الكتاب أجمع كتب أحاديث الأحكام، وكان شيخنا يعبر عن ألمه لتضييع أهل اليمن لعلمائهم، فكتاب الرباعي أجمع من كل كتب أحاديث الأحكام، ولكن العالم عن غافلون؛ إذ لم ينهض اليمنيون لإبرازه وإعزازه.
وتوالت نجوم العلوم في تدريسه المأمون، فكان من الدروس التي لا أنساها: (وبل الغمام) وهو حاشية قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي الشوكاني على شفاء الأُوَام في أحاديث الاحكام للأمير الحسين بن بدر الدين محمد الحسني.
ومن نوادر ما درَّسه من الكتب المبهرة التي تعجب ألا تجد الأيام بها سائرة: كتاب (توضيح الأفكار (حاشية فريدة في علم مصطلح الحديث لبدر الدنيا والدين محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (ت1182ه) على كتاب )تنقيح الأنظار( لأعجوبة الزمان وبدره محمد بن إبراهيم الوزير (ت840ه)، والكتابان من أعظم كتب الحديث تحقيقًا، ولكن أين من يخبر الدنيا بجدوى زمزمِ؟
ومن الكتب العظيمة التي تلقح الأفكار، وتسلك طلبة العلم وأهله في سلك الفقهاء، وتنمي الملكة الفقهية في الطالب مبكرًا كتاب الشوكاني العظيم: (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار(، وما زلت أسائل نفسي؛ إذ لم أكن أجمع مسموعاتي على الشيخ في ثبَت وثيق- هل قرأ علينا شيخنا: كتاب (ضوء النهار المشرق على صفحات الأزهار) للحسن بن أحمد الجلال (ت١٠٨٤)؟ أم كان ذلك لكثرة استشهاده به، وتكريره لمقامه؟ ومثل ذلك أسائل نفسي عن الكتاب الأعجوبة: (العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ) لصالح ابن مهدي المقبلي (ت1108ه)، فإنني الآن لا أذكر هل أقرأنا شيئًا منه أم كان ذلك لكثرة إشارته له؟ فمعظم دراستي على شيخنا كانت قبل عام1997م.
أما إقراء الشيخ للبخاري وكتب الحديث، فهو أشهر من أن يُذكر لكثرة تكراره، واستزرته مرة في بيته مع أفاضل من الكويت منهم الشيخ: فيصل العلي -أكرمهم الله- يطلبون منه الإجازة، فاطمأن بنا المقام في مجلسه، ونلنا من أعاجيب أحاديثه وذكرياته العلمية شيئًا وددت أنني فطنت، فوثقته.
وافتتح لنا مرة القراءة في إرشاد الفحول، ولم أكمله معه لانشغالي بالدراسات العليا، ونسيت أن شيخي يقول: أنا خريج الجامع لا الجامعة، وليس الذكر كالأنثى، وكان إذ رآني ابتعدت عن مجالسه لذلك يسألني بعض مسائل، فإن عييت يقول: هيا (روح اقرا)، وبإشارة لطيفة يذكر المقصرين (أصحاب القراءة العوراء) كما يسميهم بما قاله الشوكاني في أول السيل الجرار:
“وأما من لم يكن بهذا المكان ولا بلغ مبالغ أهل هذا الشأن ولا جرى مع فرسان هذا الميدان فهو حقيق بأن يقال له ماذا بعشك يا حمامة فادرجي:
لا تـعذر الـمشتـاق فـي أشــواقــه * * حتى تكون حشاك في أحشائه
لا يعرف الشــوق إلا من يكابده * * ولا الصـبـابـة إلا من يـعـانيـهـا
وهو لا يورد هذه العبارة بأكملها لكنني سمعت منه البيت الأخير أكثر من مرة، أما التاريخ من مشرق العالم إلى مغربه فتعجب من استحضاره لدقائق من نكته وأخباره قلما تجدها عند غيره.
وصحبت القاضي -رفعه الله مكانا عليا، وكان به حفيًّا- في حجه غير مرة حيث كنت تراه وهو في الثمانينات يسير على قدميه متنقلًا من محل إقامته إلى الحرم بخفة لا تعهدها فيمن هو مثله، ثم يتكئ على عموده عند المؤذنية حيث يجتمع اليمانيون لتنهال عليه أسئلتهم، وهو لا يسأم من الإجابة على ما يرد منهم، وتجد بعضهم يميل بنزقه، وسوء خلقه في مساءلته فإذا به يذهب ذلك عنه بحلاوة أسلوبه، وجمال تناوله، وأسلوبٍ فريد عزيز، وفكاهته التي تصحبها ابتسامة هي الذهب الإبريز.
ولا تجد اليمن مجمعة على إمامة أحد كما أجمعت على إمامة محمد بن إسماعيل العمراني.. يحاول رسل الظلام أن يمحوا ذكر ذلك النور الساري.. أفيستطيعون، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب))؟ ها هي الجنائز بيننا وبينهم تشهد (وكفي بالله شهيدًا). يا مدائن العلم العامرة، ورياض الفقه الوارفة، ويا محابر التعليم، ويا سُرُج التأويل: هل أرى في ضفافكم بسمة إمام أو تحقيق علّام أو تدقيق هُمام، أم خُتِمَ بعد شيخنا الباب بقفل ضاع مفتاحه فلا يُرام؟
لقد امتلأت دنيا اليمن بأحاديث شيخنا، وفتاواه ورسائله، وأقضيته التي تمتلئ شجاعة في الحق، وتفيض نفعًا للخلق، وكان من وصاياه التي لا أنساها لي يوم أتيته قبيل هجرتي من اليمن، وقد دهمتها ظلمات الفتنة كلامًا هذا معناه: أنا سكتُّ، وهذه فتنة، فالزم ما قمت به، واعتزلهم.. هل تعلمون: لمَ قال لي ذلك؟
لقد كان الشيخ عضو هيئة المرجعية، وهي هيئة علمية كنت مقررًا لها، وكانت تحاول الإصلاح بين الرئيس علي عبد الله صالح والخارجين عليه، فإذا رؤوس القوم من الطرفين قد أسكرهم عبث التلاعب المحلي والدولي، وظنوا أنهم مانعتهم علاقاتهم الدولية الشرقية والغربية من تدمير اليمن، ظنوا أن حذقهم ولقاءاتهم بالسفراء والسفارات تكفي لئلا يكون بيادق في أيدي غيرهم، فما عاد أحد منهم يفيئ إلى رشد أو يستمع لنصح، ومال الشيخ عن جميعهم، واعتزلهم بدلًا من أن يخوض فيما خاضه الخائضون.. وما زلت -والله- أعجب لهذه الكرامة في اتخاذ هذا الموقف حيث كان بريق الأحداث يعمي الآخرين.
لقد كان – كان الله به حفيًّا- مسددًا موفقًا، كان حصنًا من الحصون الصادقة التي حاربت البدع الآثمة، ووقفت دون مبالاة أمام الظلمات المتراكمة، ولم يلتفت لإغراء أي طرف من الأطراف التي مضت خبط عشواء تسوقها أماني الطامعين -جعل الله له لسان صدق في الآخرين-:
مات الذي.. ملأ الدنيا بحكمته
وحسن منطقه في خير تبيانِ
مات الذي.. أضحك الشاكي وأسعده
وعلم الناس في أخلاق رباني
اليوم يرحل عنَّا مُلهَم حفِلت
به الديار وأحيا قلبَ إنسانِ
إن مات ما مات فينا روح منهجه
يظل بالنور يهدي طول أزمانِ
ها هو القاضي المبجل.. نور اليمن، وضياؤها يقدم على ربه: لم تغب عني ابتساماته العذبة، وحثه للتنقيب في دفائن الكتب المختبئة: يحدثك حديث الناقد البصير عن المذاهب الأربعة ثم عن اختيارات الزيدية، ثم عن آراء الهادوية والإباضية، ويكر على ما يستحق من تلك الآراء والمذاهب بالنقد الذي يعلي فيه شأن الكتاب والسنة، ولا يسوي بينها في الميزان، ويخبر كيف أن مذاهب أخرى لا يمكنك أن تسميها مذاهب، لأنها أنشأت ببدعتها وظلامها مصادر للتلقي تختلف عن مصادر التلقي في الإسلام.. ثم لا يبرح في كثير من مجالسه حتى يملأ قلبك من الآهات الصامتة على حال الإسلام وأهله، ويذكرك كيف كان يصبر على نشر أنوار الكتاب والسنة في الأرجاء.. كيف يملؤها بالضياء.
وإذ قد أوجعك قلبُك متألـمًا على حال المسلمين يعود إليك الوالد الأب الحاني مفتي اليمن وقاضيها فيملأ قلبك بالرجاء، ولا تبرح حتى تسمع منه نكتة عذبة، وطرفة مستملحة تعيد لك التوازن قبل أن تفقده… أفتلومني حين تراني أشعر باليتم إذ أتاني نعي عالمٍ ملك على الناس قلوبهم؟
فيا رب هذا عبدك محمد بن إسماعيل العمراني: اجمعني به في ظل عرشك، واجعلنا ممن يباهي بهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم القيامة، فيا مدرسة القضاء والفتوى ويا نبراس العلم في الدنيا: سلام عليك يوم ولدت، ويوم مت، ويوم تبعث حيًا.
يصدق فيك قول سعيد بن دحباج:
وفد الحجيجُ على الكريمِ بجمعهِمْ وَوَفَــــــدتَ أنــتَ عـلـى عـظـيـمِ الشَّـــانِ
تركوا الديارَ وفـارقـوها خلفـــهـــــــــمْ ورحــلــتَ نـحـــوَ الـــواحــدِ الدَّيَّـــــــــــانِ
الكُــــلُّ يرجـــــــو عفـــــــــوَهُ ونـــوالَـــهُ والفوزَ بالحســـــنى بـــخيرِ جِنــــــانِ
فالطــُفْ بعبدك يا إلهي واجــعــلِ الْـ فــردوسَ سُـكـنـى شـيـخنا العمراني
وارفع له الذكرَ الجميلَ وَأَسْبِغَنْ فَــضـــْلًا عــلــيـــــهِ وواســــعَ الـرضــوانِ
ولدك المحب: عبد السلام بن مقبل المجيدي
الاثنين 2 من ذي الحجة الحرام 1442 هـ