العبادة قيمة عالمية لحل المشكلات المعقدة
9 أغسطس، 2021
466
قد تتعجب من العنوان، وربما قلت هذه دعوى تحتاج لبرهان، ولكن من حقنا عليك أن تقرأ حتى لا يكون حكمك أيضا دون بيان، فتعال معي إلى صلب الكلام: إن النظام العبادي في الإسلام هو النظام الأنجح لقيادة الحياة الإنسانية؛ فهو النظام الشامل لكل المجالات الحيوية، المبرمج لها وفقًا لما وضعه خالقها، وأراده صانعها.
أجل! قد تندهش أيضا مما ذكرناه، وتنكر متعجبًا من أن نجعل نظامًا (ثيوقراطيًا!) تقليديًا حلًا للمشاكل العالمية المعقدة والمتجددة.. فلا تتعجل علينا، واستمع لبيان حجتنا الناصعة في أن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة: 5] مفتاحٌ لحلِّ المشكلات العالمية، وحتى تظهر تلك الحجة البينة ينبغي أن نتعرف عن قربٍ إلى معنى هذا النظام الرائع الذي سماه الشارع (العبادة) لإدراك قيمته العظيمة في إصلاح الإنسانية:
فإن جئت للنظر إليها من الناحية اللغوية ستجدها كنزًا رائعًا للبشرية، فهي مأخوذةٌ من تعبيد الطريق، أي تذليلها، وتمهيدها لتصبح سهلةً، ولذلك قال الراغب الأصفهاني -رحمه الله تعالى- “العِبادةُ: غاية التّذلّل”، والذل هنا هو الذل الإيجابي، فيكون من الضعيف أمام القوي الحق، ومن الفقير أمام الغني الكامل، ومن الكسير أمام جابر المنكسرين، ومن الخائف أمام من يؤمّن الخائفين، وهذا الذل ينعكس إيجابًا في التعامل مع الخلق.
ولذا عرَّفوا العبادة بأنها: “محبة الحق، وبذل الخير للخلق”، فالنظام العبادي قائمٌ على الحب للخالق المنعكس بذلك الخير للمخلوق.. والحب جزء من تعريف النظام العبادي.. نعم إنه الحبُّ الذي وصفه ابن القيم بأنه: “الحياة الَّتي من حرمها فهو من جملة الأموات، وهو النُّورُ الَّذي من فقدهُ فهو في بحار الظُّلمات، وهو الشِّفَاء الَّذي من عدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، وهو اللَّذَّة الَّتي من لم يظفر بها فعيشه كلُّه هُمومٌ وآلامٌ”.
وأشار المحققون إلى العبادة بوجه آخر فقالوا هي: “اسْم جَامع لكل ما يُحِبهُ الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الباطنة، وَالظَّاهرة”، فشملت العبادة كل فعلٍ نافعٍ، وعملٍ صالحٍ، وقولٍ طيب، وحركة إيجابية للنفس أو للمجتمع، بشرط أن ينوي به المرء وجه الله، ويريد به اكتساب محبته، فالنظام العبادي الإسلامي يشمل التَصَوُّرات الاعتقادية، والتصرفات العملية في المجالات الحيوية المختلفة، ولعل ذلك يكون كافيًا لندرك عظمة النظام العبادي، وحقيقته في الإسلام، وأنه يمثل طريق البشرية نحو الحرية الحقيقية، والسعادة الخالدة.
ومن جهةٍ أخرى فإن المنهمك في هذا النظام الرائع (العبادة) هو الذي جمع أربعة أركان: غاية الحب، في غاية الذل، في غاية الخوف، في غاية الرجاء. فهذه أربعة أركان للعبادة تُـمَثِّل مشاعر فياضة تعكس أفعالًا إيجابيةً عاليةً في بناء النفس المسلمة، وقد وصف الله العابدين بأنهم {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]، والخوف يولد الرغبة في بذل الأسباب لتجاوز المخاوف، والرجاء يُبْقِي شعلة الأمل متقدةً، ويبعد شبح اليأس والبؤس. وعبر الفخر الرازي في (تفسيره) عن تعريف العبادة بصورةٍ يجمع فيها بين السكينة التي يجدها المرء في متابعة خالقه، والتنفيذ لنظامه في إعانة المخلوقين فقال: العبادة هي: الإِتيان بالفعل المأمور به على سبيل التَّعظيم للآمر -سبحانه وتعالى-.
وإذا كانت العبادة هي أساس السعادة، ومرتكز السيادة والريادة في بناء النفس والحياة فينبغي أن يُقَدَّم هذا المفهوم الرائع باعتباره قيمةً عالميةً يحتاجها العالم كله دون خوفٍ في هذا التقديم ولا رهبةٍ ولا ترددٍ ولا استحياءٍ. ومن عجيب ما ترى عيناك أنَّ هناك مَن يتجرأ على تقديم مفاهيم أخرى تحتوي على حقٍ وباطلٍ، ويسوقون لمفاهيم هي الباطل كله، كمفاهيم الإلحاد، وخرافات المساواة المطلقة، وجرائم الربا، وعفن الحرية الجنسية، ويتفاخرون بها، وبالكلام عنها، ويتلجلج بعضنا في تقديم هذا المفهوم الرائع (العبادة) للعالم من خلال بيان إيجابياته العالية في النفسية التي تعتنقه، وتأثيراته العميقة في حياة الفرد والمجتمع.
ودعوة الناس إلى العبادة ليس لإظهار الخضوع والخشوع والاستسلام لخالق الكون فقط، فالله كما قال عن نفسه -جل في علاه-: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] بل لأن أساس السعادة الكونية قائمٌ على العبادة، ولذا قال سبحانه: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، فتأمل موقع كلمة (لكم) هنا، وقيام المغفلين أو المجرمين بمحاربة هذا المفهوم أو التنقص منه يعني البحث عن وسائل جلب الشقاء لهذا العالم، سواءً أكان ذلك عبر الاستهزاء والتنقص الفردي، أم عبر المؤسسات والمحافل المتآمرة على سَحْب أَلَقِ العبادة وجمالها من حياة الإنسان.
فـ(الصلاة والزكاة والصيام والحج) لمصالحنا وأنفسنا وسعادتنا، و(الحجاب) لأمننا وراحتنا، و(تحريم الربا) لحريتنا الحقيقية وأمننا الاقتصادي، و(العدل) لإشاعة المساواة القانونية في محالّـِها الصادقة، وإعطاء كل ذي حق حقه، و(القصاص) للأمن الحياتي، و(تقسيم المواريث) للعدل الاجتماعي، و(الجهاد) لحماية المجتمعات وتحصين المشروع الإسلامي الرائد.
إن أعظم فائدةٍ للعبادة تعود للعابد، وللبشرية من حوله، فالنظام العبادي يؤدي إلى حفظ العابد وخدمته، والقيام على مصالحه، والعبادة ليست تسخيرًا للنفس بل حقيقتها خدمة النفس، ولذا قال علماؤنا: “أتظن أنه -تعالى ذكره- دعاك لعبادته، وإنما دعاك لنعمته ودخول جنته”؛ فالعبادة مفتاح الخيرات، وَعُنوَان السَّعادات، ومهبط البركات، ومطلع الدَّرجات، وهي أهم أسس إصلاح المجتمعات، ودليل الصدق في المعاملات، ويَنبُوعُ الكرامات.
والعبادة بذلك: هي الوظيفة الإنسانية، والبرنامج الحياتي العملي للإدارة الحقيقية الناجحة لحياة الإنسانية، وهي الأساس لبناء الأوضاع المدنية، ولصلاح الأحوال العمرانية. وهي النظام الذي ينسجم مع خلق الإنسان، فالتكليفات العبادية تُكَوِّن البرنامجَ الطبيعي الفطري للإنسان.. البرنامجَ الذي يُصلِحُ له دينه ودنياه ويجلب له السعادة. هل أدركت معي شمول هذا المفهوم الرائع (المنهاج العبادي) للحياة كلها؟
إنه يتألف من نُظُمٍ متعددةٍ تشمل مجالات الحياة المختلفة، وينتمي إلى هذا المنهاج كل ما يتعلق بإعمار الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، وينبثق عن هذا المنهاج التشريعات العَقَدية (أركان الإيمان)، وأركان الإسلام، والتشريعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو الذي نسميه (الشريعة)، فصارت (الشريعة أو العبادة القائمة على التوحيد، والشفاء من أمراض الشرك والرياء، والتطهر من الأرجاس الثقافية والفكرية والسياسية) أحدَ أهم الحقوق العالمية التي تحتاجها الإنسانية لبناء السعادة الحيوية.
فوجب أن تكون العبادة في المرتبة الأولى في سُلَّم الأوليات والأولويات الحيوية عند كل إنسانٍ يريد السعادة؛ إذ لا طريق للسعادة سوى صحيح العبادة.