المنار.. وتذوق بلاغة القرآن الكريم
14 سبتمبر، 2021
1518
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في «تفسير المنار» (1/ 168): «فَمَنْ يَقْرَأْ مِنْ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ إِلَّا مِثْلَ السَّمَرْقَنْدِيَّةِ وَشَرْحَيْ (جَوْهَرِ الْفُنُونِ) وَ (عُقُودِ الْجُمَانِ) فَشَرْحَيِ التَّلْخِيصِ لِلسَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَحَوَاشِيهَمَا لَا يُرْجَى أَنْ يَذُوقَ لِلْبَلَاغَةِ طَعْمًا، أَوْ يُقِيمَ لِلْبَيَانِ وَزْنًا، فَأَنَّى يَهْتَدِي إِلَى الْإِعْجَازِ بِهِمَا سَبِيلًا، أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؟ وَإِنَّمَا يُرْجَى هَذَا الذَّوْقُ لِمَنْ يَقْرَأُ أَسْرَارَ الْبَلَاغَةِ وَدَلَائِلَ الْإِعْجَازِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، فَإِنَّهُمَا هُمَا الْكِتَابَانِ اللَّذَانِ يُحِيلَانِكَ فِي قَوَانِينِ الْبَلَاغَةِ عَلَى وِجْدَانِكَ، وَمَا تَجِدُ مِنْ أَثَرِ الْكَلَامِ فِي قَلْبِكَ وَجَنَانِكَ، فَتَرَى أَنَّ عِلْمَيِ الْبَيَانِ شُعْبَةٌ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُمَا يَشْهَدُ لَهَا الشُّعُورُ وَالْحِسُّ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مِنْ مَنْظُومِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمَنْثُورِهِ، وَاسْتِظْهَارِ بَعْضِهِ مَعَ فَهْمِهِ، كَمَا قَرَّرَ حَكِيمُنَا ابْنُ خَلْدُونَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عِلْمِ الْبَيَانِ مِنْ مُقَدِّمَتِهِ.
فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الْبَلَاغَةِ فَهْمًا وَأَدَاءً، وَالْقَوَانِينُ الْمَوْضُوعَةُ لَهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَنْبَطًا مِنْهَا، وَقَدْ عُكِسَتِ الْقَضِيَّةُ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى حَتَّى سَاغَ لِمُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ أَنْ يَقُولَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقْرَأُ فِي مَدْرَسَةِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَأَمْثَالِهَا: إِنَّ قَوَاعِدَهَا تَقْلِيدِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِهَا تَفَاضُلُ الْكَلَامِ، إِذْ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ مُزَاوَلَةً لَهَا أَضْعَفَهُمْ بَيَانًا، وَأَشَدَّهُمْ عِيًّا وَفَهَاهَةً.
فَمَعْرِفَةُ مَكَانَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَحْكُمُهَا مِنَ الْجِهَةِ الْفَنِّيَّةِ وَالذَّوْقِيَّةِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ حَظًّا عَظِيمًا مِنْ مُخْتَارِ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ الْمَنْظُومِ وَالْمَنْثُورِ، مِنْ مُرْسَلٍ وَمَسْجُوعٍ، حَتَّى صَارَ مَلَكَةً لَهُ وَذَوْقًا، وَاسْتَعَانَ عَلَى فَهْمِ فَلْسَفَتِهِ بِمِثْلِ كِتَابَيْ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَالصِّنَاعَتَيْنِ لِأَبِي هِلَالٍ الْعَسْكَرِيِّ، وَالْخَصَائِصِ لِابْنِ جِنِّيٍّ، وَأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَمُغْنِي اللَّبِيبِ لِابْنِ هِشَامٍ، هَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْبَلَاغَةِ وَنَتِيجَتُهَا الْمَلَكَةُ وَلَهَا غَايَةٌ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا مِنَ التَّارِيخِ، وَهِيَ مَا كَانَ لِلْقُرْآنِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ فِيمَنْ حَذَقَهَا مِنَ الْأَعَاجِمِ أَيْضًا.»