بديع التدبرات في أسرار المُحَمِدات
11 سبتمبر، 2021
2051
أحكم الله كتابه فجعله في مستوى الإعجاز الذي يجعل الأعناق خاضعة أمامه والقلوب مأسورة لجماله والعقول مطرقة لبديع مراميه وجلال مبانيه، وهذا يدعوك للتأمل والتفكر فيه، وإن من التدبر الجميل الوقوف أمام السور المُحَمِّدة في القرآن، فقد افْتَتَحَ الله -تعالى ذكره- خمس سُوَرٍ بالحمد أولاهن (الفاتحة)، والأربع الباقيات تُفَصِّل معنى (رب العالمين)، فهي تُفَصِّلُ افتتاحيةَ (الفاتحة):
الأولى: سُورَةُ الْأَنْعَامِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} [الْأَنْعَامِ: 1]: فذكر الله تعالى من أقسام العالمين في افتتاحية هذه السورة: خَلْقَ السموات والأرض، وجَعْلَ الظلمات والنور، والخلقُ والجعلُ قِسمٌ من أقسام التربية المستفادة من لفظ (رب) فإنها تشمل: الخلق ابتداءً، والتربية تعاهدًا، ومن التربية للكون تعاهده ببقائه في عَظَمَته ونظامه، وعدم فساده أو العبث به أو تغييره.
الثانية: سُورَةُ الْكَهْفِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]: فذكر في الأنعام الكون المنظور، وذكر في الكهف الكتاب الذي هو الدستور المسطور لهذا الكون، وذلك لأن الكون يحتاج إلى الميثاق الدائم والمنهاج العظيم الملازم لبناء الشخصية المسلمة ورعايتها، مما يؤدي إلى تشييد المجتمع بالصالحات، والأفعالِ الخيِّرات، ومراقبته بالهيمنة على أنظمته حتى لا ينحرف أو ينجرف أو يزيغ، وهذا جزءٌ من معنى التربية الواردة في كلمة {رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
الثالثة: سُورَةُ سَبَأٍ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ :1]: خذ هذا الإشراق القرآني المدهش! إن ذكر الحمدلة في أول سورة سبأ لفتٌ للأنظار على هيئةٍ فريدة، فسورة (الأنعام) ذكرتِ الخلق للمخلوقات العظمى وهي السموات والأرض، وسورة (الكهف) ذكرت سياسةَ هذه المخلوقات بالكتاب، وسورة (سبأ) بينت عزة الألوهية والمالِكية مما يقتضي أن تذعن الحضارات لنظامه، وتسير وَفق مراده وكلامه، فذكر الله الحضارة الربانية الشامخة التي أقامها داود وسليمان -عليهما السلام.
وفي المقابل ذكر الله في (سبأ) حضارةً إنسانية هي حضارة (سبأ) تمردت على النظام الإلهي، وظنَّت أن لها الحق في التحكم بحياتها وَفق نظامٍ عبثيٍّ اخترعته، وأظهرت التبختر الثقافي حتى طالب قوم (سبأ) بما يدل على الغرور الحضاري، فقالوا بطرين أشرين: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19]، فناسب أن يبدأها الله بذكر أن له ما في السموات وما في الأرض يسخرها لمن يشاء، ويمنع منها أصحاب الآراء العبثية التي تتلاعب بها الأمزجة والأهواء، وهذا جزء من معاني التربية.
الرابعة: سورة فاطر {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:1]: أما هذه السورة فتعريفٌ متجدد بعظمة الخالق بأسلوبٍ آخر، فقد فطر الله السموات والأرض فأوجد الذرات والخلايا المشار إليها بخلق السموات والأرض في سورة (الأنعام)، وذكر في فاطر أنه فَطَرَها لتُكَوِّنَ المخلوقاتِ الحية وغيرها، حتى أوجد منها أعاظم المخلوقات كالملائكة أولي الأجنحة {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1].
وقد روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- من أمثلة هذا الفَطْرِ للذرات والخلايا لتُكَوِّن مخلوقاتٍ عظيمة شيئًا مذهلًا، حيث قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) رواه أبو داود وإسناده جيد، وبين هذا الخلق العظيم للملائكة، وبين فَطْرِ الذرات والخلايا لتكوين هذه المخلوقات العظيمة تتضح لنا صورةٌ من صور التربية للأجساد مما ورد في قوله: {رَبِّ الْعالَمِينَ}.
ومن العلاقات الواردة بين المحمدات الأربع المفصلة للحمدلة في الفاتحة ما أشار إليه النورسي من أن كل واحدة منها ناظرة إلى نعمةٍ من النعم الأساسية التي هي:
النشأة الأولى في (الأنعام) حيث قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وما بعدها، وطبيعة البقاء في هذه النشأة في (الكهف) حيث قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] والقصص المذكورة فيها.
والنشأة الأُخرى في (سبأ) حيث قال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]، وطبيعة البقاء بعدها في (فاطر) حيث ذكر للمؤمنين دار المقامة، وقال عن الكافرين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36].
لا تقطع عجبك وتسبيحك في تأملاتك القرآنية! فهاهنا أمرٌ متممٌ لما سبق، فكما افتتح خمس سورٍ بالحمد فقد اختتم خمس سورٍ بالحمد:
الأولى: سورة الإسراء، حيث قال الله -عزَّ وجلّ-: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111].
الثانية: سورة النمل، حيث قال-جلّ مجده-: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:93].
الثالثة: سورة الصافات، حيث قال -تعالى ذكره-: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180- 182].
الرابعة: سورة الزمر، حيث قال -تقدس في علاه-: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين{ [الزمر:75].
الخامسة: سورة النصر، حيث قال -تعالى جدُّه-: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3].
ألا ترى أن آخر سورة مسبحةٍ بالحمد هي سورة النصر؟ اللهم اقسم لنا منه أوفر الحظ والنصيب.. يا قريب يا مجيب.