بين فقه التعايش وفقه الحذر
14 ديسمبر، 2021
652
وصف الله صراط الـمُنعَم عليهم بأنه {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.. إنها الواقعية الرائعة للقرآن الكريم.. لم يجعلنا نعيش في فخاخ الأحلام، وشباك الأوهام، فمن الحقائق الكونية الواضحة وجود المجرمين والمعتدين والمفسدين من المغضوب عليهم والضالين؛ ليتم الاختبار في دار الدنيا بكيفية تفاعل الأخيار مع شر الأشرار {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، وهذه البصيرة القرآنية تعني أن يوجد فقه التعايش جنبًا إلى جنبٍ مع فقه الحذر والتحذير:
فـفي فقه التعايش يتعايش أهل الصراط المستقيم مع غيرهم في ظل ضوابط: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وترك الفحشاء، والمنكر، والبغي. وفي فقه الحذر والتحذير تقتضي سورة (الفاتحة) إيجاد آليات فرديةٍ وجماعيةٍ للحذر والتحذير من الفرق المجرمة المغضوب عليها والضالة. وهذه الأولية نلاحظها بينةً في وصف الله -عزَّ جاره- للمجرمين بأنهم مغضوبٌ عليهم أو ضالون، وهذا الوصف وصفٌ لمبدأ فعلهم ونتيجته في الوقت ذاته، فقد عصوا فَضَلُّوا، واستحقوا الغضب النازل عليهم، ثم عموا وصموا أكثر، ولأنهم مغضوب عليهم وضالون فقد حُرِموا التوفيق للتوبة، فهم من الغضب والضلال ينطلقون ليزدادوا غضبًا وضلالًا.
الآن استرجع الذاكرة التاريخية لترى بوضوح أن الكليات الجامعية والمؤسسات الثقافية المنبثقة عن الإرساليات التنصيرية في لبنان ومصر قد أدت دورًا وظيفيًا قذرًا في الفصل بين المسلم التركي والمسلم العربي باسم القومية والحرص على اللغة العربية أو الهوية العربية.. لم تحارب الظلم الذي قد يوجد عند العرب، وقد يوجد عند الأتراك، وقد يوجد عند المسلمين، وقد يوجد عند النصارى، بل صارت تحارب الجنسية ذاتها للتفريق بين أصحاب الصراط المستقيم (المسلمين)، فجعلت الأتراك في جهةٍ، والعرب في جهةٍ أخرى، والأكراد في جهةٍ ثالثةٍ… ثم خطت خطوةً أخرى -بعد فصل العضو التركي المسلم عن الجسد الإسلامي العام- ففرقت بين العرب ذاتهم باسم الهويات الترابية الضيقة التي عبرت عنها حدود سايكس بيكو المشؤومة، ولكن أسوأ الخطوات في خطة الفصل بين أصحاب الصراط المستقيم هي: خطوة الشرخ الرهيب الذي أحدثه (الضالون) الذين يعيشون داخل الجسد الإسلامي، وهم ثلاث فئات: المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في الأمة الإسلامية..
حاول الضالون أن يصنعوا (إسلامًا) مغايراً للإسلام الذي ارتضاه الله.. إنه (إسلام) يختلف عن الإسلام الذي نقل مصادره النظرية والعملية محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه من الآل وسائر الأصحاب -رضي الله عنهم-، وتطورت حركات الضالين في الداخل الإسلامي بصورةٍ وبائيةٍ، ورعايةٍ من قيادات المغضوب عليهم والضالين في الخارج تحت شعار حماية الأقليات؛ حيث وجدت فيها كنزًا استراتيجيًا رهيبًا يقوم بالتدمير السرطاني للأمة المسلمة..
لم يتنبه أصحاب الصراط المستقيم إلى خطورة كل هذه الشروخ العنصرية والشقوق الحدودية العنصرية التي حولتهم من أمةٍ واحدةٍ إلى أممٍ، لقد قسّمت آيتا الصراط العالم تقسيماً منطقياً، فأبى المغضوب عليهم والضالون إلا التلاعب لإبطال هذا التقسيم القرآني، فظهر في الأمة الانحراف الجزئي التدريجي عن منهج الصراط المستقيم، وعن الوحدة التي فرضتها آية الصراط بين المنتسبين إلى المنعم عليهم.
وإن تعجب لذلك فازدد يقينًا بدينك وإيمانك عندما تعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أشار إلى وقوع هذه الأمة في الفتنة المفرقة لأصحاب الصراط المستقيم؛ حيث سأل ربه ألا يسلط بعض أمته على بعض.. فما النتيجة؟ اسمع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِىَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِى سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِى مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ، وَإِنِّى سَأَلْتُ رَبِّى لأُمَّتِى أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّى إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ، وَإِنِّى أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا)). هذا التذكير النبوي بالمأساة القادمة بين الأمة يقتضي الحذر من أن يكون أحدٌ طرفًا فيها.