كيف حمى القرآن الأهلية المالية للمرأة؟
5 أبريل، 2022
1191
لقد كانت سورة النساء علامة فارقة في تاريخ المرأة المبني على العدل والرحمة ومراعاة الخصوصية، فإذا كانت السورة قد أعلنت بث الحياة الإنسانية من خلال المرأة فإنها تؤكد على حق المرأة في كمال الأهلية الـمالية لتتصرف في ممتلكاتها دون وصاية، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]
والآية تدل على أبعد من ذلك.. فهي لا تدل فقط على حفظ المهر، بل تدل على حماية الشريعة للأهلية المالية للمرأة؛ إذ يقول الله تعالى {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ، فالمعنى: يحرم التصرف في شيءٍ من المهر إلا بطيب نفسٍ منهن، ويحرم أخذ شيء منه على سبيل القهر، أو بسيف الحياء، والخطاب لكل من يحاول أن يأخذ من مال المرأة سواء أكان وليًّا لها أم زوجًا، وَقَدْ ذكر الله هذه الأهلية المالية للمرأة في طور معاشرتها كما ذكر هذه الأهلية للمرأة في طور مفارقتها، فأما في طور معاشرتها ففي هذه الآية، وأما في طور مفارقتها فقَالَ جل ذكره: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20]، فانظر لهذا التشديد في حماية مال المرأة، والتحذير من مساس مالها، حتى والإنسان يفارقها، فكيف في حال معاشرتها؟ وترى أن الله تعالى ذكر في هذه الآية المباركة {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]
ثلاثة قيودٍ للأخذ من مهر المرأة، ومثل ذلك مالها حسب الإعجاز البياني الرائع في الآية:
القيد الأول: طيبة النفس.
نجد هذا القيد في هذه الكلمة المباركة {فَإِنْ طِبْنَ} [النساء: 4]، فانظر لبيانها المشرق، وتقييدها الحقوقي لأموال النساء.
فكلمة (طاب) أي زكا ونما وتعني اتِّصَاف الشَّيْءِ بِالمُلَاءَمَةِ لِلنَّفْسِ مع زيادةٍ تنوف على مجرد الرضا، فلا بد من الرضا وزيادة عليه، ومن ذلك طيبُ الرَّائِحَةِ يدل على زيادة على مجرد الرضا، تصل إلى الاستحسان، وَالريح الطيب إذا كانت ترضي السائر في البحر، وتزيد على الرضا إلى الاستحسان كما في قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]، ومثل ذلك قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } [البقرة: 168] فضد الطيب الخبيث والرديء، وبذا فإن الآية تقرر أنه يحرم أخذُ شيءٍ من مهرها فضلًا عن بقية مالها سواءً أكان ذلك على سبيل القهر أم على سبيل الحياء.. كما أن الآية تَزَعُكَ لتسلك سبيل الاحتراز الشديد في التعامل مع مال المرأة، فأما إذا طابت أنفسهن بأن يعطينكم شيئًا من مالهن سواءً أكان من الصداق أم من غيره فكلوه هنيئًا مريئًا، وطيبة النفس تعني ألا تضيقوا عليهن.. تعني ألا تحرجوهن حتى يعطينكم إياه، فتقييد أخذ المال بطيبة النفس تقييدٌ شديدٌ يدل على ضرورة أن يتيقن الإنسان رضا المرأة عن ذلك الأخذ، فيمكنها أن تُظْهِرَ الرضا دون أن تطيب نفسها كالأم التي يستأذنها ابنها في السفر فتأذن له دون طيبة نفسٍ منها.
وكلمة (نفسا) تدل على ضرورة أن تتيقن أن رضاها ليس رضًا ظاهريًّّا بل نبع من أعماقهن. وهذا القيد يبين قوة كمال الأهلية المالية للمرأة، وفيه حمايةٌ هائلةٌ لها وصيانةٌ عجيبةٌ لحقوقها، وقد روي عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ مَعَ زَوْجِهَا شُرَيْحًا فِي عَطِيَّةٍ أَعْطَتْهَا إِيَّاهُ، وَهِيَ تَطْلُبُ الرُّجُوعَ فَقَالَ شُرَيْحٌ: رُدَّ عَلَيْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ} فَقَالَ: لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا عَنْهُ لَمَا رَجَعَتْ فِيهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: أُقِيلُهَا فِيمَا وَهَبَتْ، وَلَا أُقِيلُهُ لِأَنَّهُنَّ يُخْدَعْنَ[1].
القيد الثاني: الإذن في التصرف بشيء من مال المرأة حال طيبة نفسها متعلق بأن يكون {لَكُمْ}لا لغيركم.
وهذا القيد بصَّرنا به قوله تعالى {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ}، فالكلمة {لَكُمْ} مقصودة، وإلا لكان اكتفى بأن يقول (طبن عن شيء)، ومعنى ذلك أنهن لا بد أن يذكرن أن الإذن في التصرف كان لكم لا لغيركم، وإلا فهو لمن أذنَّ له دون غيره، وهذا يدل على أنه قد تطيب أنفسهن بأن يعطين شيئًا من المال، وربما كان ذلك عطية وربما كان لأجل أن يُستَثمر لها مالها، ولكن ليس {لَكُمْ} لشكٍّ في كفاءتكم أو ترددٍ في مدى حرصكم على ذلك المال. فلابد من التأكد أن تطيب أنفسهن لكم فقد تطيب لغيركم لحذقهم وكفاءتهم.
القيد الثالث: ألا تستغرق هذه العطية المال كله سواء أكانت عطية قرض أم استثمارًا أم عطية هبة.
وهذا يفهم بطريق الإشارة لا بصريح العبارة من قوله تعالى: {عَنْ شَيْءٍ}، فكلمة {شَيْءٍ}تدل على منع استغراق المعطى لكل مال المرأة، وهذا القيد يدل على زيادةٍ في بيان قوة التصرف في مالهن، ويؤيد ذلك كلمة (من) التي تدل على التبعيض، ولكن كلمة (من) عند الجمهور إنما هي لبيان الجنس لا للتبعيض، لذلك جوزوا للمراة أن تعطي للرجل مالها كله، ونازعهم الفريق الأول، فذُكِرَ عن الليث بن سعد عدم جواز أن تعطيَ المرأة الرجل أبًا كان أم زوجًا مالها كاملًا[2]، فالتبعيض مندوبٌ إليه ليتم التعفف عن قبول الكل من قبل الأب أو الزوج أو الرجل الـمُعطَى؛ وهو نفسه ينبغي أن يتورع إذا قالت له المرأة: خذه كله؛ لأن الله تعالى قال (منه) ولم يقل: (كله)، هذا مما ينبغي أن نشيعه في وعينا في المجتمع لماذا؟ لأن أخذ المال كاملًا قد يكون عن خداعٍ أو ضجرٍ، فربما أعقب ذلك أن تندم المرأة على الإعطاء، وربما ترتب على ذلك مشاكل في الحياة الزوجية، فإن شئت أن تسألني عن اختياري بين القولين فأخبرك أن الأمر عندي يحتمل الرأيين، فقد يجوز أن تعطي المرأة مالها كاملًا في بعض الأحوال، ولكن الأقوى أن التبعيض يدل على مشاركة المرأة للزوج أو للأب أو للأخ في أعباء الحياة استهلاكًا للمال أو استثمارًا، فهو حثٌّ لها على ذلك من جهة أن تطيب نفسها حتى يحصل نوعٌ من المشاركة، وإشارةٌ للرجل أبًا كان أو أخًا أو زوجًا للتعفف من جهة أخرى.
وهناك أمرٌ آخر مشاهَدٌ في واقع الحياة في موضوع التبعيض هو حماية صاحب المال من الاحتياج المستقبلي قدر الإمكان، فقد يتعثر مَنْ أخذ المال، فلا يستطيع رده أو المكافأة عليه، وقد يفشل في استثماره.
فانظر إلى هذا التفصيل العجيب، والتقنين الدقيق الذي حوته ثلاث كلماتٍ من القرآن الكريم، وفيها بيان لكمال حق المرأة في تصرفاتها المالية.
وهنا نرى أنه عبر بالأكل عن حلية التصرفات، والتعبير بالأكل مستعملٌ في القرآن الكريم كثيرًا لبيان الجواز في جميع التصرفات، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] وَقَالَ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]
وهذا التعبير القرآني الفريد يحقق هنا عدةَ أهداف:
الهدف الأول: ليكون الِانْتِفَاع بالمعطى تامًا لَا رُجُوعَ فِيهِ لِصَاحِبِ الشَّيْءِ المُنْتَفَعِ بِهِ، كالأكل الذي لا ينتفع به إلا آكله؛ فالأَكْلُ -كما يقول الطاهر بن عاشور[3] -: هُوَ أَقْوَى أَحْوَالِ الِاخْتِصَاصِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّهُ يُحْرِزُهُ فِي دَاخِلِ جَسَدِهِ، وَلَا مَطْمَعَ فِي إِرْجَاعِهِ.
الهدف الثاني: لأن الأكل هو أعظم أوجه الانتفاع لضرورته للإنسان، ولبيان بناء جسده منه.
الهدف الثالث: ليشاكل المنع، فبين هنا أنه يجوز أكل هذا المال في مقابل المنع من قربان مال اليتامى في قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2].
الهدف الرابع: ليطيب الانتفاع به كطيب المأكول في مقابل تبشيع الانتفاع بما لا يحل مما ورد في قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]
فماذا يرى بعد هذا الذين يتكلمون عن الإسلام في حقوق المرأة ونحن نرى المرأة سلعة للتجارة والكسب بها مع عدم احترامها إلا في إطار ذلك، فإذا لم تعد وسيلة للكسب تركت وهجرت.
[1] انظر: تفسير الرازي(9/494).
[2]انظر: الكشاف (1/471).
[3] انظر: التحرير والتنوير (4/221).