فقه آيتي الصراط
4 ديسمبر، 2021
1221
يغيث القرآن الأمة بالبصائر التي تنير الظلم، وتشرق بالأنوار على دروبها، وتنشر سبل السلام فيها، ومن مشارق الأنوار وسطوع الأنوار فاتحة الكتاب، تفتح أبواب المعرفة القرآنية للأمة، فمن قوله تعالى ﴿اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ * صراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ﴾ [الفاتحة: ٦-٧] نستنبط بصائر قرآنية ثرية تبنيها آية السعداء والأشقياء في العقلية المسلمة، ومن ذلك أن الـمُنعَمَ عليهم من أهل الصراط المستقيم يجب عليهم الحذر والتحذير من الفرق المغضوب عليها والضالة التي تتسبب في استجلاب غضب أرحم الراحمين، أو تُوقِع الأمة في الضلالات الفكرية والاعتداء دون اعتبارٍ للجنسية الدينية، فقد وصف الله صراط الـمُنعَم عليهم بأنه {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}..
إنها الواقعية الرائعة للقرآن الكريم.. لم يجعلنا نعيش في فخاخ الأحلام، وشباك الأوهام، فمن الحقائق الكونية الواضحة وجود المجرمين والمعتدين والمفسدين من المغضوب عليهم والضالين؛ ليتم الاختبار في دار الدنيا بكيفية تفاعل الأخيار مع شر الأشرار {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، وهذه البصيرة القرآنية تعني أن يوجد فقه التعايش جنبًا إلى جنبٍ مع فقه الحذر والتحذير:
فـفي فقه التعايش يتعايش أهل الصراط المستقيم مع غيرهم في ظل ضوابط: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وترك الفحشاء، والمنكر، والبغي. وفي فقه الحذر والتحذير تقتضي سورة (الفاتحة) إيجاد آليات فرديةٍ وجماعيةٍ للحذر والتحذير من الفرق المجرمة المغضوب عليها والضالة. وهذه الأولية نلاحظها بينةً في وصف الله -عزَّ جاره- للمجرمين بأنهم مغضوبٌ عليهم أو ضالون، وهذا الوصف وصفٌ لمبدأ فعلهم ونتيجته في الوقت ذاته، فقد عصوا فَضَلُّوا، واستحقوا الغضب النازل عليهم، ثم عموا وصموا أكثر، ولأنهم مغضوب عليهم وضالون فقد حُرِموا التوفيق للتوبة، فهم من الغضب والضلال ينطلقون ليزدادوا غضبًا وضلالًا.
الآن استرجع الذاكرة التاريخية لترى بوضوح أن الكليات الجامعية والمؤسسات الثقافية المنبثقة عن الإرساليات التنصيرية في لبنان ومصر قد أدت دورًا وظيفيًا قذرًا في الفصل بين المسلم التركي والمسلم العربي باسم القومية والحرص على اللغة العربية أو الهوية العربية.. لم تحارب الظلم الذي قد يوجد عند العرب، وقد يوجد عند الأتراك، وقد يوجد عند المسلمين، وقد يوجد عند النصارى، بل صارت تحارب الجنسية ذاتها للتفريق بين أصحاب الصراط المستقيم (المسلمين)، فجعلت الأتراك في جهةٍ، والعرب في جهةٍ أخرى، والأكراد في جهةٍ ثالثةٍ…
ثم خطت خطوةً أخرى -بعد فصل العضو التركي المسلم عن الجسد الإسلامي العام- ففرقت بين العرب ذاتهم باسم الهويات الترابية الضيقة التي عبرت عنها حدود سايكس بيكو المشؤومة، ولكن أسوأ الخطوات في خطة الفصل بين أصحاب الصراط المستقيم هي: خطوة الشرخ الرهيب الذي أحدثه (الضالون) الذين يعيشون داخل الجسد الإسلامي، وهم ثلاث فئات: المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في الأمة الإسلامية..
حاول الضالون أن يصنعوا (إسلامًا) مغايراً للإسلام الذي ارتضاه الله.. إنه (إسلام) يختلف عن الإسلام الذي نقل مصادره النظرية والعملية محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه من الآل وسائر الأصحاب -رضي الله عنهم-، وتطورت حركات الضالين في الداخل الإسلامي بصورةٍ وبائيةٍ، ورعايةٍ من قيادات المغضوب عليهم والضالين في الخارج تحت شعار حماية الإقليات؛ حيث وجدت فيها كنزًا استراتيجيًا رهيبًا يقوم بالتدمير السرطاني للأمة المسلمة.. لم يتنبه أصحاب الصراط المستقيم إلى خطورة كل هذه الشروخ العنصرية والشقوق الحدودية العنصرية التي حولتهم من أمةٍ واحدةٍ إلى أممٍ، لقد قسّمت آيتا الصراط العالم تقسمياً منطقياً، فأبى المغضوب عليهم والضالون إلا التلاعب لإبطال هذا التقسيم القرآني، فظهر في الأمة الانحراف الجزئي التدريجي عن منهج الصراط المستقيم، وعن الوحدة التي فرضتها آية الصراط بين المنتسبين إلى المنعم عليهم.
وإن تعجب لذلك فازدد يقينًا بدينك وإيمانك عندما تعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أشار إلى وقوع هذه الأمة في الفتنة المفرقة لأصحاب الصراط المستقيم؛ حيث سأل ربه أن لا يسلط بعض أمته على بعض.. فما النتيجة؟ اسمع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِىَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِى سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِى مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ، وَإِنِّى سَأَلْتُ رَبِّى لأُمَّتِى أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّى إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ، وَإِنِّى أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا))().
هذا التذكير النبوي بالمأساة القادمة بين الأمة يقتضي الحذر من أن يكون أحدٌ طرفًا فيها.
والآن أخبرني –أيدك الله-: كيف ترى آيتي الصراط المستقيم بعد ذلك؟ ألم ترَ إلى آيتي (الصراط المستقيم) كيف أنتجت لنا بصائر يمكن أن نسميها (فقه آيتي الصراط)؟ ومن هذا الفقه القرآني لها أن نقوم بإنشاء الهيئات العلمية المختصة التي تمنع وقوع الأمة في فخاح المغضوب عليهم والضالين، ويأتي في مقدمة هذه الهيئات: مؤسسات العلم الشرعي التي تقوم بالتخلية والتحلية، والتصفية والتزكية، وتنمي حاسة الحذر من الـمزالق الفكرية الضالة، وتربي على كيفية التعامل الشرعي مع الذين في قلوبهم مرض، والمرجفين وقوى النفاق دعوةً، وإصلاحًا، أو ردعًا ومجاهدةً وكفاحًا، وذلك لحماية الثابتين على الصراط المستقيم من الغلو والانجراف فيه، أو الزل والانحراف عنه كما قال -جلَّ مجده-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
ولذا بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحذيفة بن اليمان السبيل العاصم من حالة الفتنة التي يسيطر فيها الشر على مقاليد الأمور، وذلك لما سأله فقال: يا رسول الله أبعد هذا الخير شر؟ فقال: ((يا حذيفة تعلَّم كتاب الله واتَّبع ما فيه)) ثلاث مرارٍ. قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شرٌّ؟ قال: ((يا حذيفة تعلَّم كتاب الله واتَّبع ما فيه)) ثلاث مرارٍ. قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الشَّرِّ خيرٌ؟ قال: ((هدنةٌ على دخنٍ، وجماعةٌ على أقذاءَ فيها)) قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شرٌّ؟ قال: ((يا حذيفة تعلَّم كتاب الله واتَّبع ما فيه)) ثلاث مرارٍ. قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شرٌّ؟ قال: ((فتنةٌ عمياء صمَّاء، عليها دعاةٌ على أبواب النَّار، وأن تموت يا حذيفةُ، وأنت عاضٌّ على جذلٍ خيرٌ لك من أن تتَّبع أحدًا منهم)).
يا لله إلى أي مدى بلغ هذا الحرص النبوي على الأمر بتعلم كتاب الله؟ ألم تره كرَّر ذلك الأمر في حديثٍ واحدٍ تسع مراتٍ، وهل ذاك إلا لأنه منبع الحماية والرعاية والتغيير نحو الخير والحسنى!! ومن هنا نعلم لماذا تصر القوى العالمية للمغضوب عليهم والضالين على إلغاء دور القرآن الكريم، والمدارس الشرعية، والمعاهد العلمية التي تنشر العدل والخير والنور في العالم.