الفاتحة تجيب عن أهم الأسئلة الوجودية
5 مارس، 2022
847
قصة النهاية، وبدء الحياة الحقيقية
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]
في مقاصد الفاتحة وبصائرها إجابات سهلة وعميقة لأعقد الأسئلة التي تتوارد على ذهن بعض الفلاسفة وحتى الملاحدة، كما أنها الينبوع العاطفي للمؤمنين والزاد الفكري للمتدبرين، وهذه الآية الكريمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]
إذا تأملت في المناسبة والاتصال بينها وبين ما قبلها، فسوف ترى أنها تبين قصة النهاية.. إنها تتكلم عن قصة نهاية الكون في الحياة الدنيا، فالآيات السابقة ذكرت قصة البداية راسمةً ثلاث بصائر كلية:
فالبصيرة الكلية الأولى رسمتها آية البسملة، وهي تتكلم عن قصة البداية العالمية للكون مادةً ونظامًا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1].
والبصيرة الكلية الثانية رسمتها آية الحمدلة، وهي تتكلم عن كلية التربية للعالمين إيجادًا، وإعدادًا، وإمدادًا، وإيفادًا، وإرشادًا، وإسعادًا {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].
والبصيرة الكلية الثالثة رسمتها آية الرحمة، وهي تتكلم عن كلية اقتران الخلق والتربية بالرحمة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3].
ثم جاءت هذه الآية.. آيةُ الملك الأخروي {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] لتبين قصة الحق في الكون كله: حيث تبرز في هذه الآية قصة النهاية للكون المنظور، وبدء الحياة الحقيقية التي تترتب على البداية الاختبارية في الدنيا، فالبداية اختبارٌ على تطبيق مقتضيات تربية العالمين، ونهاية هذا العالم هو (يوم الدين)، ففيه يظهر العدل الكامل، حيث {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، وكما أن الله رحمن رحيم بهم في الطبيعة فهو رحمن رحيم بهم في المآل والمصير.
إذن أصبحنا نعرف الجواب عن السؤال الكوني الوجودي الثالث: (إلى أين نذهب، وإلى أين المسير والمصير؟)، فانظر كيف رسمت هذه الآيات المعدودات معالم الحل للمشكلة الفلسفية العميقة التي يثيرها الدهريون والوثنيون.. ألم يقل أحد الحائرين ممن تاه عن هذه المعاني:
جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ
وسأبقى ماشيًا إن شئت هذا أم أبيت
لست أدري!
أتراني كنت محوًا أم تراني كنت شيئًا
لست أدري ….. ولماذا لست أدري؟
لست أدري!
فحياة فخلود أم فناءٌ فدثور
أصحيح أن بعض الناس يدري
إنّني أدري وأدري لِمَ يا هذا أتيتُ
جئتُ عبدًا لإلهِ الكونِ ويلي إنْ عصيتُ
جئتُ مخلوقًا بأمرِ الله بالدُّنيا ابتُليتُ
كلّ ما في الكونِ مثلي عن مرادِ اللهِ يدري
جاهِلٌ من قال يومًا: لستُ أدري لستُ أدري
كلُّنا للهِ ماضٍ فشقيٌّ وسعيدُ
وقريبٌ في هناءٍ وقصيٌّ وبعيدُ
حِكمةٌ لله فينا إنّهُ الربُّ الحميدُ
ضلّ من لمْ يدرِ شيئًا، واهتدى من كان يدري
هذه الدّنيا ستمضي فمماتٌ فنشورُ
فحِسابٌ فنعيمٌ، أو عذابٌ وسعيرُ
لخلودٍ قدْ خُلِقنا هكذا قال القديرُ
فلهُ الحمدُ فلولا فضلهُ ما كنتُ أدري
كيف بعد الهدى نهذي لست أدري لستُ أدري
ويمكن القول: إن هذا المقصد (قصة نهاية الحياة الدنيا، وتطبيق العدل الإلهي الكامل) بمحاوره يؤسس للبناء الحيوي الصحيح، ويبين الشفاء من الأمراض المادية، والأدواء الفكرية، والثقافية، من خلال الثناء على أرحم الرحماء.
وتأمل كرةً أخرى في الاتصال بين هذه الآية وما قبلها، فكأنك ترى البشرية لما أيقنت بعظيم رحمة الله البارزة في تكرار {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الآية الأولى والثالثة طمع فيها الجميع حتى الكافرون، فربما تساءل السامع: فهل الرحمة تقتضي عدم الحساب، وهل الرحمة تقتضي ترك الخلق يفعلون ما يشاؤون من الأهواء والرغبات التي قد تؤدي إلى الفساد في الأرض؟
عندها يجيء الجواب مبينًا قصة النهاية: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، فكما أن الرحمة والحمدلة يقتضيان الفضل، فإن الملك والحساب يقتضيان العدل، فَذِكْرُ الرحمةِ قبل آية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] يدل على وجود الرحمة في الآخرة كما هي موجودةٌ في الدنيا، بل بيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها أعظم، ولكن وجود الرحمة لا يعني عدم وجود الحساب الذي يقتضي الثواب أو العقاب..
وتلخص لنا من ذلك أن ذكرَ الرحمة المأخوذة من الآية قبلها تفتح باب الآمال فيما عند الله من النعيم والإفضال، وذِكْرُ (مالك يوم الدين) بعدها يقطع الأهواء، ويُـحَرِّرُ العبد مما تسببه محرمات الشهوات من الإذلال؛ إذ قد تمتد إليها النفوس معتمدةً على الرحمة السابقة الغالبة، فلذا ذكر الدين بمعنى الجزاء ليكون العبد على حذرٍ من العاقبة.
فانظر إلى هذا الجمال في كلام الملك المتعال.