المقالات

التقوى طريق بناء الإنسان الصالح

أ. د. عبد السلام المجيدي

لا زالت الآية الأولى من سورة النساء تبين الأسس العظيمة لبث الحياة الإنسانية، فقوله تعالى {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء: 1] يبصرنا بأن التقوى صِمام الأمان لإعطاء الحقوق لأهلها، وإقامة القوانين بالعدل في العلاقات الأسرية والبشرية، ومبدأ التقوى ينمي الـمراقبة الإنسانية، والضمير البشري، ويقيم الأخلاق الحقيقية، ويحمي من التلاعب بالقوانين؛ فقد كرر الله ذكرها مرتين في آية المقدمة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1]، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، والتقوى تعني اتقاء المخافات المستقبلية القريبة والبعيدة الناتجة عن حساب الله لعباده، وذلك يعني اتقاءه عزَّ جارُه.

وقال تعالى معبرًا عن جوهر التقوى:

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، فالشعور بالرقابة الإلهية هو المحفز لتنمية التقوى، والتقوى صمام الأمان لإيقاظ ضمائر البشرية التي تراقب الله وتخافه، حيث بين الله تعالى أن استحقاقه لأن يتقيه عباده؛ فهو الرب الخالق { رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء: 1] فكُنْتَ مَعْدُومًا فَأَوْجَدَكَ، وَمَيِّتًا فَأَحْيَاكَ، وكلمة {ربكم} تعني أنك كنت عَاجِزًا فَأَقْدَرَكَ، ومُعدمًا فأعطاك، ونكرة فعرَّفك، وَجَاهِلًا فَعَلَّمَكَ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 78، 79] وهذا يقتضي أن نشكره، والشكر يكون بالتقوى والتقوى تكون بالعبادة، والعبادة رأسها الإيمان.

فأين ابتكار البرامج المناسبة للتدرب على تنمية هذا الهدف العظيم (التقوى)؟

هذا المبدأ يعني تحفيز الأجهزة الإعلامية والتعليمية على غرسه، وأعجبني صنيع والدٍ حفز التقوى في المجال العبادي لدى أبنائه بأن أعلن عن منافسةٍ للحصول على شهادة البراءتين، وعنى بذلك حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق» .

التقوى تعبر عن المراقبة الذاتية وتعني إيجاد الإنسان الصالح، وهنا نلاحظ عظمة البناء الإسلامي في إعطاء الأسرة مكانتها، والتعامل بالتقوى مع بقية الأرحام، وجعل التقوى أساس التعامل مع الأسرة البشرية الكبيرة التي ترجع إلى أبٍ وأمٍّ، وبذا تظهر المقاصد الشرعية في الاهتمام بمصالح بني الإنسانية الذين تربط بينهم علاقة الدم؛ إذ كلُّهم يرجعون إلى أبٍ واحدٍ، وأمٍ واحدةٍ، فقد سبق أن ذكر الله تعالى جده قضية الحقوق مرارًا في السورتين السابقتين مثل آية البر {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وآية المسارعة إلى المغفرة والجنات (آل عمران: 133)، ولكن الجديد هنا أنه يُفَصِّل تفاصيل الحقوق والواجبات من أول آية، ومقدمتها تمثل افتتاح سورةٍ عظيمة هي سورة الحقوق والبناء الاجتماعي في الوقت ذاته.

فالتقوى هنا أساس توزيع الحقوق، والبناء الأسري؛ وحتى ينمو الحس الإنساني السليم، فلا بد من ربطه بالتقوى {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]

فكأنه يقول: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي هو سيدكم ومولاكم المحسن إليكم، وتقواه تتم بأن تحذروا أن تخالفوه في التشريعات والنظم التي ما أراد لكم فيها إلا الخير والسعادة، فإن خالفتموها حلت بكم الشقاوة المعيشية، والعداوة بين بني الإنسانية، وأكلتكم الأزمات الطاحنة، وتحولتم إلى مخلوقات متعادية لا تعرفون حقًا، ولا تنكرون باطلًا.

وتبرق عيناك عندما ترى أن هذه السورة بدأت بذكر التقوى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، في الوقت الذي اختتم الله سبحانه وتعالى سورة آل عمران بالتقوى ضمن الرباعية التي تضمن الفلاح فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، فالتقوى هي النظام الرقابي الـمباشر على الضمير، فإن الإنسان قد يتفلت من الحقوق القانونية، وقد يتفلت من الحقوق الدستورية من خلال الدهاء والمكر والخداع، ولكنه ينبغي أن يفكر: إلى أين سيهرب من الرقابة الإلهية.

وقد يتلاعب بالقانون كما يفعل كثير من الناس خاصة في الأنظمة التي لا توجد فيها تقوى، بل ترى المحامين في تلك البلدان أكثر الناس ثراء، يعلمون كيف يستخرجون الحقوق لأهلها، وأحيانًا يكون الأمر بالعكس؛ إذ يستخرجون حقوق الآخرين المظلومين ليسلموها للظالمين.. بعضهم يعرف كيف ينصف المظلوم من الظالم، إلا أن العامل المؤثر قدرة المحامي على التلاعب بالقانون، والتحايل عليه ليكسب قضيته ولو كان صاحبه ظالمًا، وذلك ليحقق المحامي الثراء والشهرة معًا.. وذلك لا يكون عند صاحب الرقابة الذاتية.. إنها رقابة الضمير وخشية الرحمن بالغيب، وهو الذي نسميه عندنا بهذا المصطلح البديع الرائع التقوى.

لا تذهب نفسك المتأملة قبل أن تجمع بين الأساسين السابقين في الآية: أساس عالمية الخطاب القرآني، وأساس التقوى التي تجعل القانون فَعَّالًا في الحق نفسه لا فيما يسميه الناس حقًّا.. وأعد معي قراءة الآية {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] لترى أنك لا تتوارى خجلًا حين تلتقي بغير المسلم وتطلب منه أن يتقي الله بل تعتز بذلك وتخبره بما هو عنه غافل من أهمية استحضار التقوى في الحياة الشخصية والعامة، ولأنها العاصم من التلاعب بالقوانين وقد عرفها علماؤنا بقولهم: ألا يجد الخلق في خلقك عيبًا، ولا يجد الملك الحق في سرك ريبًا. وما يستوي الأعمى عن القرآن الذي يقابل غير المسلمين فلا يحدثهم بما يريد القرآن أن يحدثهم به، والبصير الذي يسمع الله يأمر العالم بالتقوى، فيبادر في حركته الأولى قبل الأخرى ليعلم الناس بالكنوز الإسلامية التي يحتاجونها حتى لو لم يؤمنوا بالإسلام.

ويروعك التكرار للتقوى مرتين في آية واحدة غير طويلة، وذلك لأنها تشمل كل شؤون الحياة، فهو تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}، فأمر بِالتَّقْوَى أولًا لِمَكَانِ الإِنْعَامِ بِالخَلْقِ في البداية وَغَيْرِهِ فهي تقوى عامة فيما بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأخيه، وَفِي الثَّانِي أَمْرٌ بِالتَّقْوَى لِمَكَانِ الأرحام القريبة والبعيدة.

فالأولى تذكير بتقوى الرب المربي، والثانية أمرٌ بتقوى الإله المعبود..

تجد في الموضع الأول ذكر الله بوصف الربوبية ليذكرك بتربيته وإحسانه فناسب البدء به؛ إذ كأنه يقول لهم كما رباكم سبحانه وأحسن إليكم فربوا ضعفاءكم وأحسنوا إليهم، وَالثاني ذكر فيه اسم (الله) وهو لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى القَهْرِ وَالهَيْبَةِ والملك والعلو، فَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى بِنَاءً عَلَى التَّرْغِيبِ، ثُمَّ أَعَادَ الأَمْرَ بِهِ بِنَاءً عَلَى التَّرْهِيبِ كَمَا قَالَ: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وَقَالَ: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].


الكلمات المفتاحية: تفسير البصائر سورة النساء