المقالات

عالمية الخطاب القرآني

أ. د. عبد السلام المجيدي

لماذا بدأ الله الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في سورةٍ مدنيةٍ مع أن المنتفع به إنما هم المؤمنون؟

لا تغفل العين المبصرة والأذن المستبصرة في ذلك عالمية الخطاب القرآني، فهو الخطاب الأكثر أهلية ليحافظ على بث الحياة الإنسانية ويقيم التفاعل الإيجابي الصالح بين أبنائها، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى في أول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: 1]، فالمخاطبة العالمية تقتضي النسبة الإنسانية لا العقدية، فلم يقل: يا أيها المؤمنون والكفار.

تكرر هذا الخطاب في القرآن الكريم نحوًا من واحد وعشرين مرة ليدلل على العمق العالمي للخطاب القرآني.. إن القرآن يخاطب البشرية جميعًا.. تمتع بذلك! وقد تتساءل: لماذا بدأ الله الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في سورةٍ مدنيةٍ مع أن المنتفع به إنما هم المؤمنون؟ إنه البعد الإنساني لرسالة الرحمة للعالمين، وهو خطابٌ مدهش:

فأما أولًا: فهناك معنىً رائعٌ في الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}؛ يدل على بعدٍ دعويٍّ عميقٍ؛ إذ تشمل هذه الكلمة أمة الدعوة جميعًا وهم المؤمنون والكفار، ولكنه لم يخاطب الكفار بـ (أيها الكفار) هنا، بل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}؛ فخاطبهم بما يجمعهم، ويؤلف بين قلوبهم، ليظهر لهم أنه خطاب لمصلحة البشرية جميعًا، وهو بذلك يثبت كثيرًا من الأخلاق الاجتماعية التي يشترك فيها المسلم وغير المسلم، ويُنشئ قاعدةً صلبةً للأخوة الإنسانية الصحيحة لا الوهمية، بل إنك تجد ربك جل ذكره لم يخاطب الكُفَّارَ بِوَصْفِ الكُفْرِ إِلَّا مَرَّتين:

وَاحِدَةً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، حيث قال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم: 7]، وهذا نداءٌ طبيعيٌ لهم في الآخرة حيث قُسِّمت المنازل في الحياة الأبدية، ولم يعد هناك مجالٌ لدعوتهم إلى الخير.

والثانية في أول سورة (الكافرون)، وهذا خطابٌ لهم عند المفاصلة، وبيان الحدود الدينية لئلا يكون الإسلام عرضةً للتلاعب، ولتثبيت حرية الاختيار الديني، فأما عند الخطاب العام فينبغي للداعية أن يتعمد خطاب الكفار بالألفاظ المؤنسة لهم مثل الألفاظ التي تدل على الانتماء الإنساني المكرم.

لقد كان هذا الخطاب الفذ أعظم تحدٍ للكفار المعاصرين للنبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.. لا ليس ذلك فحسب! بل ما زال أعظمَ تحدٍ للكافرين المعاصرين ولمن يزعم الإسلام ممن يأبون إلا جعل مصالحهم الشخصية أو مصالح دولهم الذاتية محل مقامات النبلاء الطبقية الرهيبة القديمة.

وأما ثانيًا: فمع أن المنتفع بالخطاب الإلهي غالبًا إنما هم المؤمنون المتقون إلا أن ذلك لا يعني عدم مخاطبة بقية العالم بالتقوى، ولا يعني عدم التذكير بعظمة الخالق العظيم، كما أنه يعني بوضوح أن يكون التذكير بالتقوى جزءًا من الخطاب السياسي والثقافي العام مما لا نرى ضياءه هذه الأيام، والله المستعان، ولا يستفزنك استهزاء المستهزئين.

وأما ثالثًا: فذلك يعني ضرورة مخاطبة العالم بما يتضمنه الشرع من محاسنَ ومكارم، والافتخار بتشريعاته ونظمه، وبيانه للعالَـم المترقب المتسائل أو الجاهل أو المتجاهل، وجعل ذلك أحد أهم أسس الإعلام المنتمي إلى الدول الإسلامية.. هل ترى كيف هو حال الإعلام في دولٍ تنتسب إلى الإسلام في هذه الأجيال؟.

وأما المعنى الرابع الرائع فهو: أن هذا الخطاب يتضمن دليلًا على أن الإسلام دين الحق؛ إذ ليس شريعة عنصرية، ولا طبقية، ولا تمييزية، فإن هذه الأوصاف تكفي في بطلان شرائعها، وما زلت والله أتعجب من وجود شرائع عنصرية في الأرض، دون أن يقابلها إدانة عالمية، كما أنك تعجب من وجود شرائع خاصة وإن حاول أتباعها تعميمها، وكيف يعممون شريعة تنسب إلى شخص لا إلى اسمٍ يدل على رب العالمين بينما الإسلام هو الدين الذي جاء لخطاب الناس كافة، وترى في هذا النداء للناس عظمة الإسلام القائم على التعارف والحوار حيث يقدم لهم جميعًا الحلول الناجعة لمشاكلهم، والوسائل الحقيقية لبناء حياتهم، وليس الأوهام، وأكل السموم والركام من خلال التزييف الدولي، وما يسمونه فنون الألعاب السياسية.