ليس الهدف هنا أن نناقش الملحدين في توجهاتهم بقدر ما نقصد تحريك أصول التفكير لديهم لأبسط القواعد العقلية التي تقررها كلمة قرآنية واحدة {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]

أما قلوب العارفين فإنها تفوح بالإيمان واليقين والحب والشفافية والسمو يقول ابن عطاء رحمه الله-:

“كيف يُعرف بالمعارف من به عُرِفَتْ المعارف!! أم كيف يُعْرف بشيءٍ من سبق وجودُه وجودَ كلِّ شيء!!”.

فماذا يريد الملحدون.. ماذا يريدون دليلًا على وجود الله ووحدانيته -جلَّ في علاه؟ إن كلَّ ذرةٍ من الوجود تشهد بذلك.

فقوموا لله مثنى وفرادى ثم تفكروا: هل يمكن تَصَوُّرُ الكونِ من دونه -عزَّ جاره؟ إن تَصَوُّرَ الوجود دون خالقٍ يدل على سفهٍ في التفكير، وخللٍ في العقل، واستكبارٍ وتعاظمٍ بغيضٍ، وقد قال الله عن أصحاب هذا المرض العقلي النفسي الخُلُقي: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21].. ماذا يريدون من دليلٍ على إلهية الله -جل في علاه-؟ ألا يكفي أنه لا يمكن لعاقلٍ أن يَتَصَوَّر وجود الكون دون الخالق العظيم؟ {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:20،21].

إن العقلاء لا يتصورون الكون دون وجود الخالق الذي عنه انبثقت الحياة فهو الأول والآخر، ووجوده ذاتي لا يتصور الخلق بدونه، وأنت ترى كثرة عدد المخلوقات وتنوعها، وكلها مفتقرة إلى خالق قطعًا، كافتقار المصنوعات إلى صانع، ولهذه الكثرة الهائلة في العدد قال الله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101]، والملحد المنكر لرب العالمين نافٍ لوجود الإله ويزعم بناء على ذلك أنه لا يحتاج إلى دليل على نفيه.. تعال بنا نقلب الطاولة على تفكيره لنقف أمام الحقيقة الصارخة التي يصر على الإعراض عنها، فنقول له –على أسلوب الآية الكريمة-:

انظر هذه الكثرة التي تأخذ الأنفاس للمخلوقات في السماوات الأرض، ثم انظر ثانية إلى كثرة العوالم الموجودة فيها التي تشكل أنواعها، ثم انظر كرة ثالثة إلى الكثرة المدهشة في جزئيات كل مخلوق فإنها تدل على الحكمة والخبرة البديعة على صورة تشعر العالم المدقق المتخصص فيها بأنه ضائع صغير عاجز أمام إعجازها، ثم انظر رابعة إلى التوازن الذي يشكله خلق كل نوع مع الأنواع الأخرى من عوالم المخلوقات.. وهذه الكثرة المدهشة للأدلة تدل على احتياج المخلوقات الضروري إلى وجود خالق حكيم مدبر لطيف خبير، فكل ذرة في الكون، وكل تركيب لهذه الذرات تدل على ضرورة وجود خالق واحد مدبر.. هنا نستطيع أن نقول للملحد: تظن نفسك لا تحتاج إلى دليل على إلحادك.. فكيف تصنع أمام هذه الأدلة الجارفة؟.. إنك بحاجة لإظهار صدق نفيك إلى جواب صادقٍ غير مراوغٍ عن هذا السيل الجرار من الأدلة المدهشة، وهنا تدرك لماذا ختم الله تلك الآية في سورة يونس –عليه السلام- بقوله:  {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]

حاول جوليان هكسلي أن يثبت استغناء الإنسان عن الله تعالى فألف كتابه (الإنسان يقوم وحده) Man Stands Alone  أي أن الإنسان لا يحتاج إلى رب، فيمكنه أن يقوم وحده، فرد عليه كريسي موريسون الرئيس السابق لأكاديمية العلوم بنيويورك، ورئيس المعهد الأمريكي لمدينة نيويورك، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة بكتابه: (الإنسان لا يقوم وحده Man Does Not Stand Alone يثبت فيه أن الإنسان لا يمكن أن يقوم وحده بل يعتمد في وجوده على رب العالمين.. فالله يتجلى للخلق من خلال العالمين (المخلوقات) التي لا يمكنها الوجود والاستمرار إلا من خلال تربية ربها جل في علاه، وهنا تدرك عظمة الحوار المنطقي المدهش الذي اكتنزته آيتا سورة الطور لبيان افتقار العالمين إلى ربهم {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36].

أتريد مثالًا ماديًا مشاهدًا محسوسًا من (العالمين) يدل على ربهم، فاسمع: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]

  وبعد أن ترى أن أدلة وحدانية الله وإلهيته بالقدر الذي لا يُحصى.. كيف يمكنك أن تتَصَوُر أنَّ عاقلًا يجعل أحدًا من العالمين -سواءً أكان بشرًا أم حجرًا- نِدًا لله أو شريكًا معه -سبحانه وتعالى عما يشركون-؟ إنه اللهُ رَبّي… لَا أُرِيْدُ سِوَاهُ، هَلْ فِي الوُجُوْدِ مهيمنٌ إلَّاهُ!!

حكى كريسي موريسون في مقدمة كتابه: الإنسان لا يقوم وحده..  أن رجلًا يقال له بالى PALEY ضرب مثلا من تأثره من وجود ساعة يد في طريقه، وقال: إن جهازها الدقيق أقل سببًا للعجب بمراحل، من دلائل عديدة على دقة التصميم في الطبيعة، ودعاه ذلك إلى أن استرعى الأنظار إلى أن مثل هذه الأداة تثبت لأكثر الناس شكًّا، أن هناك عملية ذهنية طبقت على الميكانيكا، ثم قال: إننا لو فرضنا أن هذه الساعة قد منحت القدرة على إيجاد ساعات أخرى، فإن ذلك لا يكون معجزة تفوق معجزة توالد الإنسان والحيوان!

وبلغ من مدى هذا التعليل والاقتناع به أن أفرد مبلغًا ماليًّا للجمعية الملكية البريطانية لتقوم ببحوث في مختلف ميادين العلم، لتثبت بها بشكل قاطع، وجود الله. وكانت النتيجة نحو اثني عشر مجلدًا كتبها أعضاء تلك الجمعية وآخرون غيرهم. وقد بينت هذه الدراسات، بشكل حازم وجود تصميم في الخلق.

ولهذا كله ولغيره يصح أن نسمي الإلحاد بالعبقرية الساذجة إذ خلاصة مذهبهم أن ألّا شيء خلق كل شيء، فما عسى موقف العاقل من هذا!


الكلمات المفتاحية: سورة الفاتحة